تغنينا بهذه الكلمات كثيراً، وخفقت معها قلوبنا، وسالت معها مآقينا شوقاً لقدسنا وأقصانا الحبيب.. لم نفقد الأمل لحظة أننا سنعانق التراب الطاهر لأرض الإسراء والمعراج..
عبر فضاءات الزمن تصلنا إشعاعة النور من الحبيب المصطفى يوجه لنا البوصلة نحو بيت المقدس..
هو ذا يهيج مشاعر أصحابه وأحبابه وأمته للالتحاق بالمسيرة المقدسية التي افتتحت بأعظم معجزة حظي بها نبي مرسل بالإسراء ليلاً من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى المبارك ثم المعراج إلى السماوات العلا فيحثهم على شد الرحال إلى تلك المواطن المباركة التي تشرفت به وبإخوانه الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبي e قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول e، ومسجد الأقصى)[1].
وجاء في رواية: (ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا)[2].
ورواية (إنما يُسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء)[3].
وللقارئ الكريم أن يتخيل حال صحابة رسول الله e وهم يستمعون إليه يحثّهم على شدّ الرّحال إلى تلك المساجد.. والحقيقة أنني أجهل متى كان ذلك؟
فإن كان قبل الفتح، فقد زادهم ذلك شوقاً وتحفّزاً لفتح مكة المكرمة لينعموا بالصلاة في المسجد الحرام، ذلك الشوق الذي جعلهم يخوضون المعارك والغزوات ويسيرون السرايا وهم على يقين أنهم سينالون موعود الله تعالى بالنصر والتمكين..
ولنا أن نقف هنا وقفة تأمل في طبيعة غزوة الحديبية فقد كانت تأخذ طابع مسيرة لمن هوت قلوبهم وأفئدتهم لبيت الله الحرام.. تماماً كتلك المسيرات التي يتم الإعلان عنها للمعلقة قلوبهم ببيت المقدس وأكنافه المباركة..
عادوا منها وهم على يقين أنها حققت أهدافها المرحلية في ترسيخ حقهم الثابت بالبيت الحرام، الأمر الذي جعل قريش ترضخ لمطالبهم وتقبل بعودتهم في عامهم المقبل معتمرين في رسالة واضحة لكل أنحاء الجزيرة والعالم تفند فيها كل مزاعم وأكاذيب كفار قريش وفشل سياستهم الإجرامية الرامية إلى ثني المسلمين عن مطالبهم بقبلتهم وأرضهم، وتكشف أيضاً عن تراخي القبضة الحديدية لهم على مكة والبيت الحرام في ضوء الإصرار على تمسك المسلمين بحق العودة إلى مسجدهم وأرضهم المباركة وممارسة شعائرهم بكل حرية.
لنا أن نستنسخ مشاعر الصحابة رضوان الله عليهم وهم يتحركون مع نبيهم صلى الله عليه وسلم نحو مكة في الحديبية ثم في عمرة القضاء التي تسمى أيضاً عمرة القضية وعمرة القصاص ثم في جيش الفتح.
وعودة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان الحديث بعد الفتح، فقد كان شدّ الرّحال بين المسجدين (المسجد النبوي والمسجد الحرام) متاحاً وميسوراً للمسلمين جميعاً في ظل دولة إسلامية قويّة تنعم بالأمن والأمان والاستقرار.. ما يعني أن قلوبهم بقيت معلّقة بإتمام تلك النعمة الجليلة بفتح بيت المقدس ليتسنىّ لهم وللمؤمنين من بعدهم شدّ الرّحال إليه، تطبيقاً لما ورد في حديث نبيهم e، وقد أتيح لهم ذلك بعدما خضّبت دماؤهم الزكيّة أرض الشَّام في أجنادين وفحل وحمص ودمشق واليرموك، وتمّ لهم فتح بيت المقدس..
أما اليوم، ووسائل التنقل متاحة بين القارات بسرعة فائقة عجيبة، وناقلات متنوعة مريحة، تتيح للمسلم أن يصلي في أي بقعة من العالم، وأي مسجد يريد (سوى المسجد الأقصى المبارك)، فإن على المسلمين استشعار مدى الخسارة والغبن من عدم تمكن الكثرة الكاثرة منهم من شدّ الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك، وتطبيق حديث نبيهم e وهديه المبارك الذي حثّنا عليه ورغّبنا فيه.. عليهم أن يستشعروا عندما تغمرهم الفرحة والبهجة لحظة رؤيتهم لمآذن وساحات المسجد الحرام والمسجد النبوي أثناء حجِّهم أو عمرتهم أو زيارتهم، أن أعينهم التي اكتحلت برؤية الكعبة المشرفة والحجرة النبوية الشريفة، لم تكتحل برؤية مآذن الأقصى والصخرة المشرفة التوأم الثالث الأسير في أيدي عدو لئيم بغيض..
عليهم ألا ينسوا لحظة واحدة في طوافهم وسعيهم وركوعهم وسجودهم وزيارتهم؛ حديث نبيهم e عن شدّ الرحال، وعليهم أن يتبعوا ذلك بالعمل الحثيث على تذليل كل الصعاب، وإزالة كافة العوائق التي تحجز بينهم وبين التوأم الثالث العزيز، لتحظى الأجيال القادمة بما حظي به جيل الصحابة والمؤمنين من بعدهم من تطبيق كامل غير منقوص لذلك الحديث العظيم.
وأمام المسيرة العالمية إلى القدس فما علينا إلا أن نستجمع كل مكنون الحب والشوق في نفوسنا.. ونقترب بأرواحنا العطشى للارتواء من معين القداسة الذي يفيض به الأقصى لأكنافه.. إنها التجربة التي خاضها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقتربون من حدود مكة وإن لم يدخلوها مع يقينهم أنهم يقتربون كثيراً من يوم الفتح.. وكان لهم ذلك كما سيكرمنا الله تعالى بمثله.
نسير مع جموع العاشقين لطهر القدس وكلنا يقين بأننا سنتبع خطواتنا تلك بأخرى مع كتائب التحرير والتطهير لبيت المقدس من الاحتلال الصهيوني في يوم نراه قريباً بموعود الله تعالى ليطل علينا ربيع القدس والأقصى وفلسطين الذي لن يتأخر، فكل من يشارك بمسيرة أو فعالية أو أي جهد صغر أم كبر لأجل القدس فإنه يسقي أزهار ذلك الربيع لتتفتح ناشرة عطرها الفواح بعد أن نجتث الغرقد من تربها.
[1] الراوي: أبو هريرة، المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 1189، خلاصة الدرجة: [صحيح].
[2] الراوي: أبو سعيد الخدري، المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 1995، خلاصة الدرجة: [صحيح].
[3] الراوي: أبو هريرة، المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 139، خلاصة الدرجة: [صحيح].